2- قـلب؟ خارج التغطية!!
[b] عيناه ترنو خلال النافذة المفتوحة نحو الفضاء اللا متناهي ونحو زرقة السماء الباهتة في أقصى الأفق الشرقي البعيد الذي غطته تراكمات من قطع السحب في ذيولها بعض الغيوم الخفيفة وان كانت قبة السماء في غاية الصفاء بزرقتها الفيروزية بين السحب المتفرقة وان حجبت أشعة ما بعد الظهيرة ركام من الغيوم المماثلة في الأفق المقابل وهي في طريقها نحو الغروب، وهذا الصفاء والتعكير هو ما يظهر كل فترة وأخرى على ملامح وجهه من القلق فيظهر عليه التوتر ثم الغضب فيهز رأسه بحركات عنيفة يطرد بها الأفكار والمشاعر التي تخمن وتقترح بأنها من أبرز عيوبـه وبأنها السبب في مشكلته، وهي الاستبعاد دوما من لوائح القبول! وبعد فترة تعود إليه قسمات الهدوء والسكينة لينطلق فيـها بهـدوء الأجواء من جديد في رحلة جديدة وأيضا في التأمل للبحث عن ذلك المنفذ الآمن الذي سيجد منه المدخل الرحب إلى السعادة الحقيقية.
ولم يكن "عبدا لجليل" وحيـدا في هذا المكان أو هذه الغرفة بينما يمارس وحيدا رحلاتـه المتـعثرة في التأمل وهو يهرب بها من واقعه في المكتب وان كان ببصره من خلال نافـذته طالما لديه الوقت وكل تلك المساحة في ذلك الفضاء الواسع، فيخرج بها بعيدا عن محيط جـدرانه ليعـاني بصمت!
فالمكتب مكتمل العدد باحتلال " إيمان" مساحة الجهة اليمنى بالكامل، وهي الموظفة الشابة المثابرة والمجدة في العمل منذ تعينت في هذا القسم قبل سنتين وكعادتها تظل منكبة على أكداس من الملفات الكثيرة والكبيرة الحجم من سجلات المرضى، وتنهمك في التمحيص والتدقيق فيـها قبل الأرشفة، أما الجهة اليـسرى فأحتلها صباح هذا اليوم الشاب" حسين يونس"! المعـين حديثا، والذي خنقه الملل في الفراغ المطبق الذي منح له وبكرم في يومه الأول ربما كهدية قدوم، فوجدها فرصة لا تفوت في استمرار غرق رئيس القسم المتواصل في السرحـان وشرود ذهنه ونظراته في ملاحقة أمور هامة أو هموم تلاحقـه وتقتحمه وتسبب له الإزعاج، والمتزامن مع انغماس تلك الموظفة الشابة في أوراقـها ودون أن ترفع بصرها للحظة عنها، ولم توجه نحوه أي نظرة وان عابرة، ومطلقا منذ دخلت هذا الصباح وألقت بتحية عامة رسمية وخاطفة ثم واتجهت مباشرة للجلوس على مكتبـها، ليدور بينـها وبين رئيس القسم حوار قصير تلقت فيه عـددا من التوجيهات دون أن ترفع رأسها نحوه إلا حين تنبهت لوجود حسين يونس، فأرسلت نحو رئيسها تلك النظرة الطويلة التي حملت الدهشة أو التساؤل ليبتسم ويعرفـها بالزميل الجديـد ويعرفـه أيضا باسمها لتنال حسين منها تلك النظرة السريـعة الوحيدة وان تذيلتها كلمة ترحيب مقتضبة وعلى عجل وكانت انطلقت أثناءها نحو عزلتها للتـفاني في العمل.
ولم يكن لدى حسين ما يعمله أو يفعله، وقد عرف بذلك ورئيس القسم يقول له ضاحكا بعـد أن تسلم مكتبه :
- لا تستعجل على الشقاء! قدامك واجد، وخلك اليومين " ريلاكس" واستمتع على قـد ما تقدر، تر جاي أيام تتمنى مثل هذي اللحظات !
وقد أبتسم حسين لهذه المقولة وأمال فـورا ظهره مع المقعد إلى أقـصى الخلف، وأوجد لعينيه المساحة والكثير من العمل بإرسال النظرات السطحية أولا ودون إعمال للتفكير للقيام بالمسح الشامل داخل المكتب من أقـصى اليمين إلى أقـصى اليسار وبينـهما دوما محطـة توقف طويلة في المنتصف! ولكنه يصل سريعا إلى النهايتين سريعا ودائما يجـد جميع المرافق بينهما مقفلة فيمل، وينطلق في وفي نفس الوجهات في جولات مسح جديدة، ورغم كثرة محاولاته افتعال أنواع تحركات وإصدار أصوات للفت الانتباه في هـذه المحطة، لعل وعسى أن يجـد اهتماما أو رفقة طريق، فتفشل ويرحل وحيــدا ببصره في نفس المشاوير والوحدة برغم اقتنـاعه بأنـه خـارج الـتـغطيـة! وربمـا إلى حين!
****
الخميس مارس 29, 2012 1:45 am